حينما يكون الإسلاميون سفراء لليبرالية ؟!هيثم الحداد | |||
ليس هذا ردا على من أباح الاختلاط بين الجنسين، ولكنه دراسة ـ أو ربما إشارة ـ لإشكالية في طريقة التفكير، ومنهج الاستدلال، كان القول بإباحة الاختلاط أحد مظاهرها، كما كان القول بعدم وجوب وحدة الأمة تحت خليفة واحد، وجواز بقائها ـ مبعثرة مشتتة ـ تحت أنظمة متعددة، مظهر آخر لها.
لقد أثارت تصريحات عضو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة المكرمة، وقد نشرت في بادئ الأمر في جريدة عكاظ، والتي تمحورت حول موضوع الاختلاط بين الذكور والإناث، وأنّ "الاختلاط ليس كله محرمًا، وإنه كان ممارسًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم دون نكير"، أثارت موجة من الاستياء لدى شرائح كثيرة من المجتمع، بدءًا بطائفة بعدد من أهل العلم وانتهاء ببعض عوام الناس الذين استهجنوا هذه الدرجة من "الوقاحة" في إباحة الاختلاط بين الجنسين وقد نشأوا من نعومة أظفارهم على تحريم هذا الأمر والذي يعلم غير المتدين قبل المتدين أنه منبع كل شر..
وقد كان مستغربًا ـ إلى حد ما ـ أنّ هذه التصريحات جذبت انتباه بعض النخب العلمية من خارج السعودية، فسرعان ما أخرج بعض المشايخ والأساتذة والدعاة من دولة الكويت بيانا يستهجن ما أوردته الصحيفة من تصريحات عضو الهيئة، وأن ما تضمنه كلامه يعتبر شذوذا في الرأي، لم يقل به أحد من أهل العلم السابقين، وقد جاء بيان هؤلاء المشايخ قصيرًا على خلاف ردود غيرهم ممن رد على الغامدي، لكنه حمل معان كثيرة، ورسم منهجًا رصينًا غاب عن كثير من الردود التي فاقته طولا، أدعو إلى اقتفائه، وأسجل هاهنا ضم صوتي لصوتهم، ويجدر بالذكر أن هذه المبادرة كانت توسيعًا في رقعة "الرقابة الشرعية"، التي ربما كانت محصورة في وقت ما على علماء السعودية ومشايخها، فالثناء موصول لهم، وعلى بلائهم الحسن.
هل تمثل تصريحات من أباح الاختلاط مؤخرًا ظاهرة ذات بعد "أصولي ليبرالي" أم أن أصحابها ك"أعرابي أراد الذكر فبال في بئر زمزم!؟ نعم لقد كثرت في الآونة الأخيرة مقولات تحمل نفس المعالم، وإن بدا أن أغلبها مقتصرًا على بعض الشعائر، إلا أن رؤى الشريعة في السياسة والاقتصاد والاجتماع قد كانت أكثر تأثرا بهذا بهذه "بالبدع الأصولية الليبرالية".
وقد كان من آخر هؤلاء الذين سلكوا ذلك الطريق وحمل بعضهم رايته من أتعب نفسه، وأضاع وقته ـ على علم ـ ليخرج كتبًا في مئات من الصفحات، اكتشف فيها أن استعمال الآلات الموسيقية مباح، من ناحية أصولية، وفقهية، وحديثية! وأن حلق اللحية مباح، فمرد أمرها إلى عرف الناس، فتلقف فئام من الناس هذه المقولات فرحين بها، وكأنما كانوا يتنظرونها على أحر من جمر..، وثالث اكتشف أن صلاة الجماعة ليست فرضًا، ورابع اكتشف أن وحدة الأمة تحت خليفة واحد مجرد اجتهاد أملته الظروف السياسية في ذلك الوقت، وأن طبيعة النظام الدولي الجديد تقتضي أن لا توحد الأمة بهذه الطريقة، وخامس أن الجهاد دفاعي لحماية المشروع الإسلامي، وسادس أن الأمة مأمورة بالسكوت عن جور الحاكم، وأن مجرد التنفيس عن النفس ولو بالكلام "خروج" يبيح عرض الخارج، وماله ودمه، وسابع لم يبق بينه وبيان أن يقول أخطأت الأمة بتحريمها لمبادلة المال بمثله متفاضلا إلا شعرات يسيرة، وثامن ...
لقد ظهرت في هذه الأيام طائفتان مبتدعتان، افترقتا في الدعوى، لكن مؤدى كلامهما واحد أو متقارب، إنه الانقضاض على المعهود السالف من الشريعة، وبذل الوسع في إثبات تناغمها مع القيم الغربية الليبرالية.
أما الأولون، فهم من نسب طريقته هذه إلى المنهج السلفي، حتى قد قال بعض الصحفيين لأحد من أشهر من عرف بالشذوذ في الآراء: "لقد رددت على أصحاب المنهج السلفي بأدوات سلفية!؟، فالتترس بالدليل، ومحاربة التقليد، والتنقيب عمن قال بهذا القول، والمطالبة بالتثبت في حكاية الإجماع وعدم المبالغة في استعماله، هي تلك الأدوات التي أطلق عليها ذلك الصحفي أدوات سلفية.
أما الفريق الثاني، فهم أصحاب المدرسة المقاصدية، الذين بالغوا في إعمال ما سموه هم "مقاصد الشريعة"، حتى أباحوا كل منصوص على تحريمه، وكل مجمع على المنع منه، بـ"مقاصد الشريعة"، بل قد رموا مخالفهم بالجمود، والوقوف عند الجزئي وإهمال الكلي، ثم نقبوا عن المخالف، ولا تخلوا من مسألة من قول شاذ، فاحتفوا به، وجمعوا له شاذًا آخر، وضخموا الخلاف، وامتطوا ظهر الاجتهاد، فنقضوا المحكمات، وعملوا إلى المشتبهات، ودعوا إليها، وهكذا حتى أصبحت مقاصد الشريعة أداة لهدم الشريعة.
وهكذا أغرق الفريقان القول، وتمالآ ـ إن أحسنا الظن بمراميهم ـ على إهمال قول السابقين مجتمعين، ولم يقيما وزنا لتتابع عمل الأمة، وتضخم لدى كل طائفة منها الاعتداد بفهمه لأدلة الشريعة، وبرز "احتقار" أفهام السابقين جليا في نتاجهم، وكم تجد في كتاباتهم عبارة: "وقد تأملت في الأدلة"، أو "وإذا تأملنا في الأدلة"، ضاربين صفحا عن فهم الأئمة قبلهم، وكأنهم ـ أي أئمة العلم ـ، واحدًا تلو الآخر، عجزوا عن التأمل في الأدلة، وأهملوا كلياتها!.
نحن لا نتحدث عن أصحاب المدرسة الليبرالية الصرفة ممن يكره التدين، لكننا نتحدث عن طائفة ممن ينتسب إلى الخير ـ فيما يظهر ـ عمل أصحابها سفراء لليبرالية، شعروا أو لم يشعروا، فقد أحبهم الليبراليون واحتفوا بهم، ليمهدوا لهم الطريق، وهؤلاء الصالحون، كمغفلي رواة الحديث أدخل عليهم أهل الفساد أحاديث فاستحسنوها، ورووها، وما هو إلا تترسا من أهل الباطل بمغفلي أهل الحق.
ونحن حينما نتحدث عن ظاهرة فلا يعني أنها تتخذ شكلا واحدًا، أو بعدًا واحدًا، فأهلها مختلفون، منهم المغرق المتطرف، وربما أعجزته الحكمه، فيفضح نفسه، ويحرق أوراقه، وهذا من رحمة الله، لكن قد نبتلى بالمجانب عليم اللسان، قوي البيان، الذي يحسن استخدام الحجة والبرهان، فيعمل سفيرًا بامتياز لكل ما هو ليبرالي متحرر من الدين.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذه المرحلة هو كيف نقاوم هذه الظاهرة ـ إن صحت تسميتها ـ، الجواب قد يطول لكن لا بد لحملة العلم المنافحين عن الشريعة من التصدي وبقوة لهؤلاء، وأن لا يمنعنا ماض مشرق لبعضهم من بيان خطلهم، فدين الله أحب إلينا من أحبابنا ـ لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين ـ فالقضيتان المتقدمتان يجب أن تكونا من أول اهتماماتنا، فلا بد من إشباعهما بحثا، ثم إحداث ثورة عارمة على هؤلاء من خلالهما، تنتهي بصرع هذا النهج المبتدع.
ثم لا بد من إعادة الاعتبار للأمة، سيما إذا جرى اتفاق بينها على أمر، ولا بد من إعادة الاعتبار لما جرى عليه عمل المسلمين منذ فجر تاريخ الإسلام حتى عصور الانحطاط هذه، فضلال أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أو جمهورها الغالب محال ـ عقلا وشرعا ـ ويجب أن نعرض صفحًا عمن صاح "الدليل، الدليل يا عباد الله"، مهملا "دلالة الدليل عند جماهير السالفين"، فكلام الشارع له دلالة تجمع الأمة عليها أو تختلف، فإن أجمعت فلا يصح نصب الدليل إلا من خلالها، وإن اختلفت، فقد أجمعت كذلك الأمة — ضمنا - على أن الحق محصور بين هذه الأقوال، وأن القول الجديد محدث مبتدع، ولعل الله ييسر إتمام بحث بعنوان "القول الشاذ، والآثار المترتبة عليه".
هذا شق، وشقيقه الآخر؛ إعادة "مقاصد الشريعة" إلى حياضها، فلا هي دليل جديد غفل عنه السابقون، وأهملته نصوص الشريعة، ولا هي قاعدة تتابع الأصوليون على الجهل بها، وكل ما في الأمر أنها من خصائص الشريعة؛ فلا تملك تحريما، ولا تحليلا، فهاهي كتب الأوائل في الأصول والكليات والقواعد، هل ملئت الدنيا ضجيجا بهذه المقاصد؟ لقد مرت الأمة في عصور خلت بواقع أشد بؤسًا من واقعنا، ومع ذلك لم نسمع من علماء تلكم العصور زعيقا: "الجأوا إلى المقاصد ففيها النجاة"، متذرعين بـ"واقع جديد يفرض نظرا كليًا في ضوء مقاصد الشريعة"!.
ثم لنتأمل كتاب الله، وسنة رسوله لنستلهم منه مقاصد التشريع، وهي ومقاصد خلق الخلق صنوان، ولنتدبر هذه الآيات، وما قاله أهل العلم السالفين في دلالاتها:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا } الأحزاب، وقريب منها في الفتح، ومثلها {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } [سورة البقرة] مع آيات أخرى كثيرة مشابهة، وخلاصة معناها ({شاهداً} أي لله بالوحدانية, وأنه لا إله غيره وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة وجئنا بك على هؤلاء شهيداً كقوله: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}. وقوله عز وجل: {ومبشراً ونذيراً} أي بشيراً للمؤمنين بجزيل الثواب, ونذيراً للكافرين من وبيل العقاب. وقوله جلت عظمته: {وداعياً إلى الله بإذنه} أي داعياً للخلق إلى عبادة ربهم عن أمره لك بذلك {وسراجاً منيراً} أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشرافها وإضاءتها لا يجحدها إلا معاند)، نقلا من تفسير ابن كثير.
وقوله {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [7:سورة هود]، وقوله {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [2:سورة تبارك] مع آيات أخر مشابه ومعناها {ليبلوكم فيعلم أو فينظر أيكم أحسن عملا}. وقوله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} في ثلاث آيات، قال البغوي ("ليظهره"، ليعليه وينصره "على الدين كله")، وهو أحد المعنيين، وسواء حملنا اللام هنا للعاقبة، أو للتعليل، وسواء كان الكلام عن إرادة كونية، أم شرعية، فالمؤدى واحد.
وقوله {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا . لِيُعَذِّبَ اللَّهُ المنافقين والمنافقات، والمشركين والمشركات، ويتوب الله على الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [73:الأحزاب] قال القرطبي في تفسيرها (اللام في "ليعذب" متعلقة بـ "حمل" أي حملها ليعذب العاصي ويثبت المطيع؛ فهي لام التعليل؛ لأن العذاب نتيجة حمل الأمانة).
ومن هذه الآيات، ابتلاء الله إبراهيم في ذبح ابنه، وابتلاء المؤمنين بشيء من الصيد تناله أيديهم ورماحهم، وابتلاء المؤمنين بتسلط الكافرين على بعضهم، ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعض المؤمنين ببعض..
أين المقاصديون عن هذه الآيات التي قلما تخلوا سورة من آيات ذات دلالة مشابهة؟
إنّ أعظم مقاصد الشريعة، أن يكلف الله الخلق بتكاليف امتحانًا لهم، ليرى من يعظمه، ومن يجاهد في سبيله وينصره ورسله بالغيب، ولو أهلك نفسه، وماله، وعقله، وعرضه، فمجاهدة الإنسان غير الله، للعمل بمراد الله ولو كان شاقا، هو أعلى درجات تعظيم الرب وحده لا شريك له هو أعظم ما يعبد الله به {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء}، {ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}